سيخرج من صدري صرح وسيعلو ويعلو وأنا أصعد وعلى قمته سأتربع... وحدي لا شيء يزعجني، لاجرح، لا شئ أعمق قد يعجز وصفي وحروفي في الأعلى... وحدي أرتبع والعالم في الأسفل يعجز أن يتكون...أن يتطلع... هذه الكلمات لا يرددها ناسك متعبد قرر الانقطاع عن البشر ليفرغ نفسه للتجليات والكواشف الربانية، إنما هي قصيدة للشاعر الألماني رينير ماريا ريلكه (1875-1926م). كان انبهار ريلكه لتلك الطاقة الخلاقة المكثفة بداخله عظيما، فرأى أنه كلما ازدادت وحدته، اشتد توهج قدراته الإبداعية وكثر عطاؤه. يقول ريلكه لأصدقائه ومحبيه:"أتمنى من كل من يحبني أن يحب عزلتي، وإلا اضطررت إلى إخفاء نفسي عن أعين الجميع، كما يختفي الحيوان المتوحش من أعدائه".
قام في داخل الشاعر صراع بين أن يحيا حياته أو يحيا عمله، فاختار أن ينزوي منفردا متحررا من القيود الاجتماعية الضاغطة، ورحل إلى مكان هادئ في الريف، ليتأمل الطبيعة التي لن تتخلى عنه ولا تخدعه، بل تنقله بإخلاص إلى مالا نهاية وجوده.
يتحرق الشعراء للتواصل العميق مع أصل الحياة المجهول، فيبحثون عنه في الصمت الداخلي، ويتقوقعون في خلواتهم وينصتون لأصوات الخيال والأحلام الغامضة. يلج الشاعر المتأمل عالم المطلق من خلال التبصر في محراب الحقيقة الكونية الفاعلة، التي تتجلى في تناغم غير قابل للتجزئة.
في دائرة الوحدة كتب بابلو نيرودا شاعر تشيلي الأول وأهم شعراء أمريكا اللاتينية أجمل قصائده التي نال عليها جائزة نوبل في العام 1971م، فد قضى سنوات طويلة في آسيا منقطعا تماما عن العلاقات الاجتماعية وحتى عن التحدث بلغته الأم، فحطت العزلة ركابها على روحه.
كما شرنق الكاتب الفرنسي مارسيل بروست نفسه في غرفة واحدة عزلها عن الصوت الخارجي بطبقات من الفلين، ألصقها على الدران والأرض والأرض ولم يغادر سريره إلا نادرا على مدى 15 عاما حتى توفي بعد أن أنجز روايته التاريخية "البحث عن الزمن الضائع".
أما نيتشة فقد صرح بأنه هو العزلة ذاتها في شكل إنسان، وقد انقطع عن المجتمع في حياته الخاصة، ليتمكن من النظر إلى داخله بشكل مكثف، حتى تكشفت أمامه أسرار ذاته ثم أصبح سجينها، وكان يقول مازحا:"أنا ناسك سيلز ماريا"، وهي القرية السويسرية التي قضى بها السنوات العشر الأخيرة من حياته.
وكان نيتشة يعتقد أنه يتوقف عن الحياة في صحبة الآخرين، وأن المجتمع يعمل على نفي ذاته من ذاته، لذا فقد وجد في العزلة سلاحه الذي يسترجع به روحه المسلوبة، ويتلقى من خلالها إلهامه الفكري المستقل. في كتابه "هكذا تحدث زرادشت" يدفع نيتشه بطله المنقطع عن العالم لسنواتإلى الهبوط من كهفه الجبلي، لتوصيل ما حصل عليه من حكمة نورانية إلى غيره من المنخرطين في طواحين الحياة العادية.
العزلة في فلسفة نيتشة فضيلة تضمن لممارسها الحرية والاستقلال، هي كهف داخلي يلجأ إليه الفرد هاربا من بلادة القطعان، هي متاهة القلب التب تقود الفرد إلى مخالفة المسيرة البشرية، حتى لا يتحول إلى ببغاء تكراري محبوس في قفص العبودية الاجتماعية.
يقول ألكسندر بوب في قصيدة "العزلة"
هكذا دعني أعيش/مجهول،مكتوم/مسروق من هذا العالم/دون شاهد يدل على قبري!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق