مراسلات ديستويفسكي
يقول مترجم الرسائل إلى اللغة الفرنسية، جاك كاتو، أن ديستويفسكي هو أقوى شخصية أدبية شهدها القرن الذهبي للآداب الروسية:أي القرن التاسع عشر. صحيح أن تولستوي يمكن أن يضاهيه أو يرتفع إلى قامته في بعض الأحيان، ولكن ما أشد الفرق بينهما!
فـ تولستوي كان يصالح الإنسان مع الكون حتى في أصعب الظروف، حتى في زمن العواصف والأعاصير. تولستوي كان يخلق إضاءات تفاؤلية من حين لآخر ولا يترك الإنسان وحيدا أمام قدره ومصيره. أما ديستويفسكي فكان يفكك الإنسان ويركبه على هواه، ويتركه أحيانا كثيرة عرضة للرعب واليأس والمواقف الحدية المتطرفة. ولذلك كثرت في رواياته الشخصيات الإشكالية كالمجانين، والسكيرين، والقتلة المجرمين، والعدميين اليائسين... ديستويفسكي كان (ولا يزال) يقلق ويزعج كل من لا يملك القدرة على متابعته.
ديستويفسكي يدوخ قارئه حرفيا. ولذلك يتحاشاه البعض خوفا منه. ولكن قلما حلق روائي عاليا، أو قلما انخفض عميقا حتى وصل إلى المناطق السحيقة والمظلمة للشخصية البشرية مثله.
سوف أتوقف فقط عند الرسائل التي كتبها قبل الحكم عليه بالإعدام وبعده. فمن المعلوم أن ذلك الحدث قد أثر عليه كثيرا. ولا يمكن أن نفهم شخصيته إلا إذا أخذنا هذا الحدث بعين الاعتبار، بالإضافة إلى تجربة المنفى التي تلته في سيبريا وقضاء أربع سنوات في سجن الأشغال الشاقة ضمن ظروف مرعبة تفوق طاقة البشر.
معظم الرسائل التي كتبها كانت موجهة إلى أخيه الأكبر ميخائيل ديستويفسكي. وكانت تربط بينهما علاقة وثيقة. نستمع إليه يتحدث عن لحظة الحكم عليه بالإعدام وكيف عاشها، وذلك قبيل السفر إلى "بيت الموتى" في سيبريا.
22ديسمبر 1849م:"أخي يا صديقي العزيز، لقد حسم مصيري! لقد ادانوني بأربع سنوات من الأشغال الشاقة في سجن سيبريا. وبعد الخروج سوف أصبح مجندا محروما من من الحقوق المدنية بما فيها حق الكتابة لمدة ست سنوات...سوف أروي لك القصة من أولها. لقد نقلونا إلى الساحة العامة لسجن القلعة. وهناك قرأوا علينا حكم الإعدام. ثم أمرونا بتقبيل الصليب.
وكسروا سيوفنا فوق رؤوسنا باعتبار أننا انتهينا. وبعدئذ اغتسلت غسلة الموتى، ثم ألبسونا الأكفان يا أخي، وصفونا ثلاثة، ثلاثة على الجدار لرمينا بالرصاص. كان ترتيبي السادس، وكنت أنتمي إلى الوجبة الثانية التي سينفذ فيها حكم الإعدام. ولم تبق لي إلا دقيقة واحدة لكي أعيش. في تلك اللحظة فكرت فيك يا أخي، في اللحظة القصوى التي لا تتجاوز الثواني كنت أنت وحدك في خيالي. وعندئذ عرفت إلى أي مدى أحبك يا أخي الحبيب.
ولكن في آخر ثانية قبيل التنفيذ، دقت الطبول وأعلنوا عن العفو الملكي الذي وهبنا الحياة من جديد!... هل تستطيع أن تتصور تلك اللحظة؟ من يستطيع أن يتصورها؟ ولكن على الرغم من كل ما حصل لي فلم أفقد الشجاعة ولا الأمل. الحياة في كل مكان هي الحياة. الحياة موجودة في داخلنا وليس في العالم الخارجي.
هل من المعقول ألا أكتب شيئا بعد الآن؟ هل يمكن أن تنتهي حياتي الأدبية وأنا لا أزال في بداية البدايات؟ آه يا أخي! كم من الصور المعاشة والأفكار سوف تموت في رأسي، سوف تتبخر إلى غير رجعة. نعم سوف أموت إذا ما منعت من الكتابة....إني أولد من جديد. لا يعرف معنى الحياة إلا من فقدها أو أوشك على فقدانها. الحياة عطية، الحياة هدية ثمينة جدا، في كل دقيقة يوجد قرن من السعادات...آه من طيش الشباب!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق