الاثنين، 25 أبريل 2011

مفارقة العقاد



مفارقة دالة تنطوي عليها مسيرة العقاد الشاعر وناقد الشعر على السواء، وهي مفارقة تتعلق بنظرته إلى التجديد الشعري والثورة على التقاليد والقوالب الجامدة في مسيرته الإبداعية الأولى، ثم انقلابه على الحرية الإبداعية التي ظل يحارب من أجلها في هذه المسيرة، ويتحول إلى مواقف مناقضة لحرية التجديد الشعري التي دعا إليها ودافع عنها في حماسة الشباب وتلهفه للتغيير.
وكانت النتيجة تحول العقاد إلى مهاجم لفن الرواية الذي رآه أدنى منزلة بما لا يقاس بمنزلة الشعر، وخصم عنيف لواحدة من أهم حركات التجديد الجذرية في الشعر، إن لم تكن أهمها في العصر الحديث، وهي حركة الشعر الحر التي اعتمدت قصيدة التفعيلة في تيارها الغالب الذي بدأ صعوده في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأ العقاد الشاب شاعرا ثائرا على القديم، ساعيا إلى هدم التقاليد الجامدة، محاولا افتتاح زمن جديد من الشعر، في موازاة جهد زميليه عبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني.
وفي الوقت الذي كان صديقه المازني يكتب عن "الشعر:غاياته ووسائطه" ويهاجم شعر حافظ ابراهيم عام 1915م، كان العقاد يكتب عن المفاهيم الجديدة للشعر الذي يدعو إليه، ويؤسس لثورة في المفاهيم والأفكار التي تستبدل الجديد الواعد المغوي بالقديم الآفل الذي فقد بريقه وبهاءه.
وكانت كتابات العقاد النقدية في مجرى الهجوم على الشعر القديم (الإحيائي) موازية لتأصيله المفاهيم الجديدة التي تأثرت إلى حد غير قليل بشعراء الحركة الرومانسية الإنجليزية (ووردزورث، كولردج، كيتس، بايرون، بليك) ونقادها ومفكريها على السواء. هكذا، كتب عن مفهوم جديد للخيال الذي أصبح آية الموهبة الإبداعية، وقرن انطلاقه بالحرية الإبداعية التي صارت مرادفة للجمال من ناحية، وتجسيدا للحرية التي لابد من أن ينطوي عليها الفرد المتميز من ناحية موازية.
وكانت أفكار نيتشة وكارلايل غير بعيدة عن مفهوم "الفرد" في ملامحه الاستثنائية التي تجعله قريبا من مفهوم "السوبرمان" الذي انطوت عليه دلالة الفرد الإبداعية عند العقاد، وجوديا وانطولوجيا وسياسيا وإبداعيا، خصوصا في الشعر الذي وصفه العقاد بقوله:
والشعر من نفس الرحمن مقتبس       والشاعر الفرد بين الناس رحمان
وكان العقاد الشاعر يتحرك على مستويات ثلاثة، يصل أولها الشعر بالفكر ليفتح القصيدة على التأملات الميتافيزيقية والوجودية، ساعيا إلى تأسيس رؤية كونية عميقة ومغايرة، ويقترن ثانيها بالبحث عن المطلق في النسبي، وتأسيس معجم حياتي جديد، بسيط عميق، قريب من الحياة العادية في تفاصيلها اليومية الصغيرة التي وصل التركيز عليها إلى ذروته في ديوان "عابر سبيل".
ولا يخلو ثالثها من نزوع وطني، يسعى إلى إعادة النظر في الطبيعة المحلية والتحديق فيها بما يكشف رموزها وطيورها التي لا تشبه غيرها. ولم تكن جسارة التجديد النقدي في مفاهيم الشعر أقل من جسارة الإبداع الشعري، أو أدنى من عنف الهجوم النقدي على رموز المدرسة القديمة، وهو العنف الذي جسده كتاب "الديوان" الذي أصدره العقاد مع المازني عام 1921م، بعد عامين فقط من ثورة 1919م، وفي سياق الاندفاعة العاصفة لتمردها على الأوضاع القائمة.
ولكن يبدو أن الجذوة الملتهبة أخذت في الانطفاء تدريجيا، وظلت تفقد مع الوقت وقدة اللهب التي استبدلت بها الأيام هدأة ما بعد الأربعين التي بدأت علاماتها الأولى في ديوان "وحي الأربعين" عام 1933م، وظلت تتصاعد في الكتابات النقدية والفكرية، وسار في اتجاه لم يكن تحولا من النقيض إلى النقيض تماما، وإنما في اتجاه مغاير، أكثر هدوءا، وأقل جذرية، وأقرب إلى الإصلاح وليس التمرد الجذري الحاسم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق