الاثنين، 25 أبريل 2011

أوراق نزار قباني



بين الأوراق الشخصية التي كان نزار قباني يحجبها عن النشر في حياته...أوراق استثنائية...سرية، لكنه لم يسمح لنفسه بحرقها أو تقطيعها...فالتخلص منها يعني التخلص من نصف تاريخه.
منها ورقة يصف فيها علاقته بجمهوره بأنها علاقة مرسومة بألوان مائية، شفافة، لكنها تأخذ أحيانا أشكالا مرضية... هستيرية... متطرفة...لا يمكن لأحد أن يقمعها أو يكبتها أو يسيطر عليها.
هناك حادثة أفقدتني توازني في لحظات، وأدخلني في امتحان صعب لا أعرف كيف أجيب على أسئلته..كأن ذاكرتي قد توقفت عن العمل نهائيا...فبعد أمسية شعرية رائعة في مدينة طرابلس اللبنانية جاء الزلزال على شكل امرأة مديدة القامة، سوداء العينين، بدوية الملامح، تقدمت من خلال الحشد الكبير الذي يحيط بي وسألتني بصوت عميق وواثق من نفسه: "هل تسمح بأن توقع لي؟" قلت: تكرمي..هاتي أوتوجرافك، قالت: ليس عندي أوتوجراف، قلت هاتي ورقة كلينكس، قالت: لا أستعمل الكلينكس...قلت: هاتي بطاقتك الشخصية...قالت: لا أحمل بطاقة شخصية..قلت هاتي ورقة من أوراق العملة، قالت:ليس عندي فلوس...قلت:إذن، أين تريدنني أن أوقع؟ قالت :على فخذي لو سمحت...ورفعت طرف ثوبها إلى أعلى أمام الجمع الغفير، دون أن يرف لها جفن، أو يرتجف لها عصب. تمالكت نفسي وبلعت ريقي من هول المفاجأة التي أذهلتني كما أذهلت الناس الذين كانوا يملأون المكان، وكان لابد من اتخاذ قرار سريع لمواجهة هذا التحدي الكبير وهذا الامتحان الصعب الذي أدخلتني فيه السيدة الشجاعة، المجنونة، فإما أن أوقع وأكسب المعركة، وإما أرفض وأخون تاريخي كشاعر أعطى المرأة أجمل.
وقفت ذاهلا أمام الأفق الحريري المفتوح أمامي ، وبدأت أحفر توقيعي على البرونز المشتعل كنحات يشتغل باتقان على تمثال جميل والناس من حولي ذاهلا أمام الحوار الذي يدور بين الشعر والبرونز.
انتهت حفلة التوقيع الخرافية واختفت "سندريلا الطربلسية" بين أشجار الحديقة دون أن أعرف من هي، وما هو اسمها، وما هي مؤهلاتها الثقافية والعاطفية؟ كل ما أذكره أن سيدة جميلة بدوية الملامح وخارجة عن القانون أذهلتني وشلتني.
وتسجل أوراقه غير المتداولة قصة تلفت النظر ..لا أحد يرويها مثله:
زارني في مكتبي ثلاث راهبات من إحدى مدارس الإرساليات، قالت لي إحداهن وكانت مسئولة عن النشاط الثقافي:"إن طالبات المدرة يتابعن شعري وهن يدرسن اللغة العربية ويأملن أن أقبل دعوتهن كي ألقي شعري عليهن بحيث يستمعن إلى الشاعر عن قرب ويتحدثن إليه ويطرحن عليه ما يدور ببالهن من أسئلة. وتحمست حماسا كبيرا للدعوة لأنها تدخلني إلى عالم من النقاء والطهارة كنت أظن أنه يرفضني ويعترض على قصائدي...
وذهبت في الموعد المقرر بعد أن قضيت أياما أنخل فيها قصائدي بيتا بيتا وأرقب حروفي مراقبة صارمة حتى أكون على مستوى المكان المقدس الذي دعاني وحتى لا أجرح القوارير. ومرت الأمسية على أحسن وجه، وشعرت أنني استطعت أن أشد "الفرامل" وأن اختياري للقصائد كان دبلوماسيا... متوازنا...لكنني فوجئت بالراهبة المسئولة عن النشاط الثقافي تقول لي على استحياء:لقد أسعدتنا يا أستاذ بقصائدك، ولكننا كنا نتمنى – طالباتي وأنا – أن تسمعنا قصيدتك المؤثرة "حبلى". تصبب العرق البارد من جبيني حين سمعت ما قالته الراهبة وسالتها وفي عيني بريق دهشة:حبلى...حبلى...هذه قصيدة قديمة جدا ولكن هل تعتقدين يا حضرة الراهبة أن المكان يتحمل قراءة مثل هذه القصيدة الجريئة؟
شعرت الراهبة باضطرابي فأجابتني بكب هدوء وثقة: ولماذا لا يا حضرة الشاعر...إن قصيدتك "حبلى" هي واحدة من أكثر القصائد أخلاقية وسموا، وهي عبرة شعرية لكل فراشة مهددة بالسحق وكل وردة مهددة بالاغتصاب...وعلى فكرة سوف يسعدك أن تعلم أن أكثر تلميذاتي يحفظن قصيدتك عن ظهر قلب...
القصيدة تكشف تهرب الرجل من مسئوليته بعد أن أغوى الفتاة حتى وقعت في المحظور وأصبحت حبلى، وفي البداية طالبها بالإجهاض، بتمزيق الجنين، وجاء الخدم لطردها بعد ان ألقوا لها بنقود قليلة:
ماذا؟/أتبصقني/القيء في حلقي يدمرني/وأصابع الغثيان تخنقني/وريثك المشئوم في بدني/والعار يسحقني/وحقيقة سوداء تملؤني/هي أنني حبلى/ليراتك الخمسون تضحكني/لمن النقود؟..لمن؟/لتجهضني؟/لتخيط لي كفنا؟/هذا إذن ثمني؟/ثمن الوفاء يا بؤرة العفن/ شكرا..سأسقط ذلك الحملا/أنا لا أريد له أبا نذلا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق